- مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة- ناصر بن عبد الله بن علي القفاري
قال مؤلف الكتاب حفظه الله في مقدمة بحثه:
... وفي هذا العصر قامت محاولات كثيرة للتقريب بين أهل السّنة والشيعة، كمحاولة جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة وغيرها. وهذه المحاولات مبنيّة على: (أنه لا خلاف بين أهل السنّة والشيعة في شيء من أصول الإيمان، أو أركان الإسلام أو ما عُلم من الدين بالضرورة) ؛ وإنما هو خلاف في بعض المسائل الفلسفية والآراء الكلاميّة التي لا صلة لها بأصول العقيدة، أو لا خلاف بينهم أصلاً إلا في بعض مسائل الفروع، والصراع والخلاف بينهما إنما صنعته الأوهام نتيجة العزلة الطويلة بين الطائفتين، وأخذ العدو يؤيد هذا الخلاف ويؤججه، والواقع أنه لا اختلاف بين الطائفتين عند الدراسة والتحقيق: (فمن الممكن أن يتقارب المسلمون فيعلموا أن هناك فرقاً بين العقيدة التي يجب الإيمان بها، وبين المعارف الفكرية التي تختلف فيها الآراء دون أن تمس العقيدة، ويومئذ يهون الأمر فنجتمع على ما نجمع عليه، وإذا اختلفنا لم يكن خلافنا إلا كما يختلف أهل المذاهب الفقهية دون خصام ولا اتهام ودون توجس واسترابة وسوء ظن مما يجعلنا متقاطعين في معاملاتنا ومصاهراتنا وثقافاتنا) ، (والقطيعة بين المسلمين أوجدت حجباً كثيفة لا بد لرفعها من دعوة تنظم الجهود، ودعاة مخلصين يبذلون غاية الجهد لتعريف كل طائفة بما عند غيرها..) .
وبناء على هذا "الحكم" - بأنه لا خلاف بين الفريقين - طالب الشيعة باعتبار مذهبهم مذهباً خامساً، وأصدر شلتوت "فتواه" بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، ونَشَر الشيعة في ديار السنّة بعض كتبهم الفقهية، ودعا بعض المنتسبين للسنّة برجوع السنّة إلى كتب الشيعة في الحديث كما يرجعون إلى صحيح البخاري وغيره من كتب السنّة، كما قام بعضهم بتحقيق بعض كتب الشيعة في ديار السنّة ونشرها. وقيل وفُعل الكثير في هذا الباب مما يطول وصفه وتسجيله. ولم يحصل شيء من ذلك في ديار الشيعة، وكأن التقصير في مسألة التقريب هو من جانب السنّة.
وكان لا بد من دراسة "مسألة التقريب" دراسة علمية موضوعية توضح الرؤية وتبيّن الطريق.. ليكون التقريب - إن أمكن - على بيّنة ومنهج واضح.. وسبيل راشد.. فإن دعوى عدم وجود خلاف إنما هي أمل يرجوه كل مسلم، ويستبشر بحصوله كل مؤمن، وهؤلاء الدعاة للتقريب يزفون لنا البشرى بأنه لا وجود للخلاف الأساسي أصلاً.
وما قاله علماء الفرق، وأئمة العقيدة والدين.. هو مجرد وهم من الأوهام.
وكما أن الاجتماع والتآلف إنما هو كسب عظيم ونجاح كبير للأمة في حاضرها ومستقبلها، فإن دعوى عدم وجود خلاف أساسي على الرغم من وجوده أمر خطير، لأن هذه "فتوى" وحكم على الضلال والباطل بالإسلام. وهذا باب من أبواب الصد عن دين الله وشرعه؛ لأن أصحاب ذلك الضلال إذا ظنوا أن ما هم عليه من باطل هو الإسلام، ثم رأوا ذلك فاسداً في العقل، شكوا في الإسلام كله.. وذهبوا يبحثون عن «مذاهب وعقائد» أُخرى.. ومن هنا فلا بد أن يكون هذا الحكم قائماً على بيّنة.. لأن التستر على الخلاف لا يؤدي إلى إزالته، بل يؤدي لاستمراره واستفحاله.. ومحاولة المريض إيهام نفسه بالسلامة تجرُّه إلى مدرجة الهلكة، ودس الرؤوس في الرمال تعامياً عن الحقيقة خير من مواجهتها مهما كانت صعبة مرة.. والدين النصيحة، لذا كان خير الطرق معرفة "واقع الأمر" و"حقيقة المشكلة" والبحث عن الحل لذلك.
إنه من الضروري أن تتكاتف جهود الباحثين المخلصين لكشف أسباب الخلاف وأُصوله، وإماطة اللثام عن الباطل الذي حاول المغرضون التلبيس به على الناس، ورفع الستار عن الأعداء.. الذين يزرعون الخلاف ويبغون في الأمة الفرقة والفشل.
لهذا سأحاول في هذه "الدراسة":
التعرف على أُصول الخلاف وأُسسه، ورأي دعاة التقريب في ذلك. وبعد ذلك سأعرض لمحاولات التقريب، والجهود المبذولة لرفع الخلاف مع التقويم لها، ثم أُبيّن هل هناك طريق ناجح لحل الخلاف.
وقد بدأْت الدراسة لـ "مسألة التقريب" بالتعريف بأهل السنّة وبالشيعة، وبيان أُسس الخلاف بينهما ومظاهره، وهذا أمر أساسي في بحث "مسألة التقريب"، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، وكيف نحكم في مسألة التقريب ما لم نعرف السنّة والشيعة؟ وهل نستطيع أن نصل إلى معرفة حقيقية لإمكانية التقريب أو عدمه قبل دراسة أُصول الخلاف بين الاتجاهين؟
فدراسة ذلك ركن أساسي في بحث "مسألة التقريب"، لهذا جعلت ذلك في بابين:
الباب الأول: أهل السنّة ويشمل: التعريف بأهل السنّة ومصادرهم
في تلقي العقيدة، ومجمل عقائدهم التي خالفتها الشيعة؛ أدرس ذلك من خلال كتب أهل السنّة.
وقد يقول قائل: إذا كانت الشيعة تحتاج إلى تعريف.. فهل يحتاج أهل السنّة إلى ذلك؟ وهل من المناسب جعل المتمسك بالحق مساوياً للمخالف المنشق، وجعل "السنّة" معادلة للنزعات التي انشقت عنها؟
وأقول: إن مثل هذا القول قد يقوله "شيعي" أيضاً، فالشيعة يزعمون لأنفسهم أن مذهبهم هو الحق.. وقضية التعريف بالطائفتين، وبيان أُصول الخلاف بينهما لا تعني المعادلة والمساواة بحال، فلكلٍّ وجهة ولكلٍّ عقيدة.. والسنّة بحاجة إلى من يعرف بعقيدتها وبنشرها.. ولا سيما في هذا الزمن الذي استحكمت فيه غربة السنّة واستفحل الكيد لها.
وقد يكون هذا التعريف ليس لأهل السنّة، بل للشيعة الذين يقرؤون عن صورة لأهل السنّة مغايرة للحقيقة.
وقد يكون الحكم بأنه لا خلاف بين السنّة والشيعة بناء على "تصوير خاطئ" لأهل السنّة في كتب الشيعة، فكان لا بد من بيان الحقيقة ولو على سبيل الإيجاز.
وفي الباب الثاني: درست الشيعة؛ بالتعريف بهم، وبيان نشأتهم وأصول فرقهم. ثم خصصت أُصول فرقهم المعاصرة "الإسماعيلية، والزيدية، والاثني عشرية" بالدراسة والتقويم، لأن كل طائفة من هذه الطوائف نادى بعض أتباعها بالتقريب.
وانتهيت إلى اعتماد "الاثني عشرية الرافضة" بالدراسة التفصيلية لأنها استوعبت بمصادرها الثمانية في الحديث معظم آراء فرق الشيعة. كما سيأتي تفصيل ذلك. فضلاً عن أنها تمثل غالبية الشيعة حتى قيل أن
مصطلح "الشيعة"، إذا أُطلق فلا ينصرف إلا إليهم.. وأنها هي الفئة التي نشطت في الدعوة للتقريب، وبثت دعاتها ونشرت كتبها، وأقامت بعض المراكز لهذا الغرض.
فدرست عقيدة "الرافضة" في أصول الإسلام المتفق عليها بين المسلمين: الكتاب، والسنّة، والإجماع. ثم عقائدها الأخرى التي خالفت فيها أهل السنّة، وهي: الإمامة، والعصمة، والتقية، والرجعة، والغيبة، والبداء، واعتقادهم في الصحابة.
ثم في نهاية هذين البابين بينت "النتيجة" لدراستنا لأهل السنّة والشيعة وذلك بالحكم على "مسألة التقريب"، ولم أتوقف عند هذه "النتيجة" بل عقدت باباً كاملاً لآراء دعاة التقريب في أصول الخلاف التي عرضت لها فيما يتصل بمذهب الشيعة، وفيما يتصل بمذهب أهل السنّة. وناقشت ذلك كله، وذلك لنرى هل تغير شيء من أصول الخلاف وأُسسه من خلال دعوة التقريب، بحيث أصبح لا يوجد خلاف بين الفريقين إلا في بعض مسائل الفروع؟ أم أن الأمر غير ذلك؟
لهذا اعتمدت في هذا الباب على آراء المعاصرين كما اعتمدت فيما قبل ذلك - في الغالب - على أحاديثهم عن "معصوميهم" وأقوال علمائهم السابقين.
وفي الباب الرابع: تحدثت في الفصل الأول عن أهم المحاولات القديمة والمعاصرة للتقريب، وقدمت تقويماً موجزاً عن تلك المحاولات، على ضوء الدراسة السابقة.
ثم في الفصل الثاني عقدت مبحثاً بعنوان: "هل من طريق للتقريب؟ " عرضنا وناقشت فيه أهم الأقوال، والطرق المتصورة لتحقيق التقريب وإزالة الخلاف، ثم بينت "الرأي المختار" في ذلك.